الثلاثاء، 16 فبراير 2016

ق.ق. علب السردين / هادي المياح العراق

هادي المياح
العراق
علب السردين
توقف عند مدخل الزقاق يتطلع الى الواجهات الأمامية للمحلات . لفت نظره اعلان بائس كتب بخط غير واضح، وعالقاً بين حزمة كثيفة من اسلاك المولدات : ورشة سيد لتصليح الأجهزه الإليكترونية. "إذن هاهي الورشة التي أبحث عنها" قال ذلك وأشار الى صاحب عربة الدفع الخشبية الصغيرة،يأمره بأنزال تلفزيون نوع القيثارة(السيد) كما شاعت تسميته بين الناس آنذاك. ويبدو ان هذه الورشة هي الوحيدة التي لم يزرها هذا التلفزيون خلال جولات ومحاولات التصليح. ربما لوجود عطل غير منظور، حيث كان بعضهم يدعي ان هذا الجهاز لا يمكن اصلاحه أو يقول" من المحتمل ان أعيد الصورة ولكنها سوف لن تكون نفس صورة السيد الحقيقية."
كل ذلك لم يثنِ عزمه، أو يفقده حماسه، لعدم التمكن من توفير البديل ونزولاً عند رغبة الأطفال الملحّة لحبهم الكبير لهذا التلفزيون بشكل خاص وكأن (السيد) كان يعيش معهم وفي داخل أعماقهم. فلقد ازداد تعلقهم به على مر السنين. 
راح ينظر الى اكداس وركام الأجهزه العاطلة وقطع الغيار التي تملأ الارضيّة والرفوف، يبحث عن سيد زميله المصلّح والموظف في القسم البلدي الذي يعمل الان في هذه الورشة ضائعاً بين فوضى الأجهزه . 
بدا له سيد في اول لقاءه به في الدائرة، شاباً ظريفاً، ارتاح له كثيراً لما يمتاز به من ثقافة وقابلية على المثابرة. وأعجب به اكثر عندما أشيع عنه بمهاراته في تصليح الأجهزة الإليكترونية ! لم يكن وجوده في دائرة القسم البلدي كمنتسب دائم، بل ضمن هيئة العاملين في المراكز التموينية. وكان الحصار قد أطبق بثقله على الناس. أما سيد فقد جاء نقلا الى القسم البلدي من محافظة ديالى، ولهذا فعلاقته بسيد قد لا تدوم طويلاً . الا انه مع ذلك حاول ان يوطد هذه العلاقة بتقربه منه بأية وسيلة كانت .
أحسَّ برائحة الأجهزة العاطلة والمشبعة بالرطوبة تتسلل الى انفه. وتنافست قطرات من العرق بالتجوال فوق جبينه. وهو لم يزل واقفا عند باب الورشة يفكر " العمل في الورشة يبدو بسيطاً ولكنه شاقاً لوجود سيد بمفرده وعدم قدرته على إدارة الورشة ،لذا بدا عليها الاهمال وأصبحت موبوءة بالرطوبة والصدأ. وإنارة شبه معدومة! وسيد لابد يعاني الان من التشويش وانعدام الرؤيا، واظنه منشغلاً يبحث عن نظاراته بين الركام "
قال له مبتسماً:
-علام تبحث يا صديقي؟ ان نظاراتك فوق رأسك!
-أه ، لقد نسيتها فعلاً.... بادله سيد بابتسامة مرتبكة ووقف مرحباً به.
-جئتك يا صديقي بهذا التلفزيون، العاطل منذ شهرين، كما قلت لك يوم أمس. 
قال ذلك وانحنى ليضعه على الطاولة.رد سيد وهو يستقبله بكلتا يديه: 
-هاته، انا في خدمتك، ساعة واحدة وسانتهي من اصلاحه.
-..........وأبتسم قائلاً،في هذه الحال، عليّ ان انتظر في الورشة!
هناك في أماكن بعيدة من رأسه، راح ينصت الى صوت مألوف يكرر نفس الكلمة انتظار انتظار أينما ذهب أو راجع لابد من الوقوف والانتظار و…. وما يتبعه بعد ذلك. الانتظار ممل فيه تتحول الثواني الى دقائق والدقائق الى ساعات و...داهمته أفكار لها وقع كبيرعلى نفسه، تشكلت منها، أسئلة إمتدت على هيئة خطوط متجاورة ونقاط وعلامات تعجب. أفكار لم تجلب له غير الدوار والصدع. وحاول ان يختار أحدها يسئل به نفسه"هل ان سيداً قادر فعلاً على اكتشاف العطل وتصليحه؟"
***** 
في مدخل الزقاق، لمح نفسه بجوارعربة الدفع التي نقل بها جهاز التلفزيون الى الورشة، فظل بصره معلقاً فيها، وخيل اليه كأنه جاء لتوه يبحث عن ورشة تصليح..نسي أسم صاحبها..وعنوانها، نسي كل شيئ عنها، عدا انها تقع على زقاق ضيق يطل على سوق المغايز في العشّار، يبحث هنا وهناك وعيناه تدوران محملقتين في كل الجهات..وتجلى له(السيد) يقبع في داخل العربة ..كأنه هو تماماً.. وبدا له منظره بائساً وهو يسير الى جانب العربة الخشبية المتآكلة.. وهناك قوة تحاول سحبه اكثر نحو العربة تشد على قميصه وتجذبه بعنف، فيلامس جسده عمودها الجانبي القصير. كان منظره سيبدو اكثر بؤساً لو ان هذه القوة سيطرت عليه بشكل تام وأرغمته على دفع العربة بدلا من صاحبها الحقيقي..كانت هذه الأفكار تنثال عليه وهو ما يزال واقفا عند باب الورشة، ولكن صورته ترافق العربة وهي تتخطى المنزلقات والعوائق والساقية التي في منتصف الزقاق. وفجأة وصل سمعه صوت حاد صدر من داخل الورشة، فشعر للحظات، لحظات فقط انه عاد بنفسه مرة اخرى ، أنه يقف الان امام الورشة. ثم تبع ذلك سكون مطلق، مطلق، حتى شك بان سيد ينام. لولا جلبة اخرى جديدة تسمع مع اقتراب العربة وقد أختفى (السيد) منها،ورافقتها فتاة رشيقة القوام تسير الى جانبها:
- ها هي الورشة إذن، وأمرت صاحب العربة بإنزال الجهاز.
وبدا له ان الأشياء المتشابهة تتكرر دائماً و يومياً..
نهض سيد مرحباً بها واستقبلها في باب الورشة،وحمل عنها الجهاز بيديه ووضعه على الطاولة بعد ان أزاح التلفزيون (السيد) جانباً. وبالرغم من اعجابه بالفتاة الا انه شعر بخطر يتهدده وربما سيدخل في مرحلة جديدة من صراع لا يعرف نتائجه..
إشتد حنقه اكثر حينما رأى الفتاة تدور في عينيها وكأنها تراهن بجمالهما في صيد الآخرين واولهم سيد صاحب الورشة."وقد أكون انا الثاني، من يعلم" فهي تمتلك عينين شهلاوين نقيتين ينبعث منهما لمعاناً وبريق ..تضيئان استدارة وجهها وخديها المتوردين . فكانتا كشرارة البداية للصراع والتنافس بينهما .قال لنفسه وهو يتمعن بعينيها ويخوض في سحرهما الأخاذ 
" لا، لا يمكنكِ ان تأخذي دوري، سأمنعك من ذلك وبشدة!"
مضى على الوقت اكثر من نصف ساعة وسيد منشغلاً بالحديث مع الفتاة، وكلما طال ذلك زاد أحساسه بالشك. حتى بدت عيناه لا تفارقان الجهاز، بانتظار لمسة من يده. ولكنه كان غارقاً في الحديث معها وانقضت الساعة ولم يتغير في الامر شيئاً.وحلّ المغرب بسرعة، وتململت الفتاة، وتململ هو، وبدت هي وكأنها تريد ان تغادر، ولكنها حتما لا تفعل ذلك!
وخطت الفتاة الى داخل الورشة قاصدة التقرب من سيد، حتى اذا دنت منه، وأصبحت صفحة وجهها المتلألئة قريبة جداً من وجهه، انحنت عليه، وهمست في أذنه كلمات لم يستطع احد سماعها. ثم عادت فاتجهت على الفور خارجة الى الزقاق. تاركة دفقات من عطرها المثير منتشرة في المكان . وبدت علامات الانشراح واضحة على سيد. فامتدت يده تبحث عن علبة السجائر، أخرج واحدة منها وراح يبتلع الدخان بنهم.
وبدأ يشعر بان ثمة أشياء اخرى كالالغاز تحيط به، وان سيداً أحد هذه الألغاز ، وشَغلهُ ما جرى أمامه، "بم همست هذه الفتاة للسيد؟ وهل وجهت له دعوة لتناول العشاء معها؟ هل ساومته على شيئ آخر مقابل ان ينجز إصلاح جهازها؟ أم ان سيداً هذا قد دخل قلبها فجأة أو او … توجد أشياء لا اعرفها" وشعر بالغيرة تجتاح أجزاءاً من جسده، أجزاءً رخوة قابلة لخوض غمار العاطفة. ربما كان جمال الفتاة سبباً لهذه الغيرة! "ولكنها تستخدمه الان سلاحاً ضدي" قال ذلك وأضاف
"هل تدبر السيد عشاءه هذه الليلة مثلاً؟ فقد كان يعمل طيلة هذا المساء ولم يدّخر مليماً واحداً من عمله ! أم ان الفتاة فعلاً دعته لذلك؟"
ولكن مع ذلك فان هذه الألغاز ليست من شأنه ولا تهمه كثيراً ، إصلاح الجهاز وإسعاد اطفاله كان اهم عنده من ذلك بكثير..
نادى عليه:
" تعال ، نتعشى معاً"
" شكراً ، لا يمكنني التإخر سأصلّح بعض الأجهزة في البيت!"
"وهل جهازي السيد من ضمنها؟"
" السيد سيكون جاهزاً عندك غدا مساءاً"
*****
في اليوم الثاني، كان يتعجل الحضور الى الورشة علّه يجد سيد وقد انتهى من إصلاح جهاز التلفزيون.ولكنه فوجئ بسيد وقد وصل لتوه ومشغولاً بفتح الاقفال.وعندما رفع الباب، شعر بكتلة من الهواء الممتلئ بالرطوبة والعفن تندفع من داخل الورشة وتلفع وجهه وعينيه.
لم يشجعه سيد على الحديث رغم انه استلم منه ليلة البارحة ست علب من اسماك السردين بالفلفل الحار! وكان خجلا كثيراً عندما عرض عليه تناول العشاء معه معتذراً في اول الامر بانشغاله في تصليح بعض الأجهزة في بيته..
" توجد لدي ست علب من سمك السردين تصلح وجبات كاملة ان احببت اجلبها لك"
انتبه له كمن صحا من نومه، وبدا عليه وكأنه لم يأكل السمك منذ فترة طويلة..
" لكنها قريبة النفاذ وتكاد تنتهي صلاحيتها!"
"لا يهم..هاتها، توجد مدة إضافية كافية ستة أشهر بعد تاريخ النفاذ"
" لكنني اخشى عليك من التسمم"
" لا .. لا تخشى واجلبها حالاً،فأنا أحب معلبات السردين وخاصة النوع الذي بالفلفل الحار.. سأنتظرك"
وعاد يفتح الأبواب من جديد، بعد ان أغلقها للتو.
كان يحس بالخدر والخمول بسبب الرائحة التي انبعثت من داخل الورشة، وإنشغال سيد في عمله. بين فترة واُخرى يأتي شباب، وفتيات،ونسوة يتوقفون لحظات قرب الورشة ثم يتركون ابتسامة ساخرة ويغادرون.
راح يلهو بنظره في الزقاق على أمل ان تظهر الفتاة من جديد، وعجب من أمره هذا وهمس مع نفسه"مالذي يشدّني اليها؟"وظهر شبح الفتاة بمسافة أمتار عن مدخل الزقاق ، وخفق قلبه بشدة لهذا الظهور..وحينما اقتربت منه تراءت له، تحيط بها هالة كبيرة من الضوء، وعبق في انفاسه -أو أوحي له -عطرها الذي تنفسه ليلة أمس..وحين اقتربت اكثر منه أشاح بنظره قليلا عنها، محاولا عدم إظهار اهتمامه. ولكنه صدم عندما تيقن بانه شبح لأمرأة اخرى مستطرقة.
شعر بضوء النهار يخفت في داخل الورشة، ورأى سيد يتخبط في نفس مكانه. وسمع اصوات سقوط عدة التصليح وبعض قطع الغيارعلى الارض ،وانقلاب بعض الأجهزة.. وبدت له العلاقة بين الأشياء قد أصبحت مفقودة تماماً. وحاول سيد تدارك الموقف بعض الشيئ ، بإنارة الورشة باستخدام بطارية صغيرة مستهلكه.. ولكنها كانت محاولة غير مشجعة .. 
غادر الورشة بصمت بعد ان استولى عليه اليأس بشكل تام.
***** 
في اليوم الثالث، وقف أمام باب الورشة المقفل ، وقد رُفعتْ عنها لوحة الإعلان الخاصة بها. وتجمعَ عدد من الناس ممن لديهم اجهزة ومتعلقات، وكان الجميع في حالة استغراب ..
وعند باب المنزل المجاور وقف أحدهم وقال انه مالك الورشة ، وان سيد أوكله بإعادة الأجهزه لاصحابها.. وراح يفتح الاقفال واحداً تلو الاخر. ثم رفع الباب بيديه الى السقف، حتى اذا انكشف ما في الداخل..
صعق الجميع.. يا للهول ! ما هذا! 
وارتدوا خطوة الى الوراء، وانبرى المالك متكئاً على جهة بعيدة عن الباب، فاغراً فاه..وقد أخذته الدهشة مما رأى، كانت كل الأجهزة قد علقت الى السقف بأسلاك، كأنها حكمت بالإعدام، واولها (السيد)، جهاز العائلة المفضل.. 
"يالك من تافه يا سيد ! لماذا فعلت هذا؟"
وبَقى لفترة مبحلقاً عينيه في المشهد يبحث عن تفسير. ويكاد الغضب يتفجر من جنبيه.." لقد أخبرني سيد بانه ترك رسائل مفتوحة لاصحاب الأجهزه" قال مالك ألورشة ذلك، وجاء بقصاصة ورق كانت معلقة مع جهازه ( السيد) كُتب فيها:
اعتذر منك جدا صديقي لعدم إكمال تصليح (السيد)
وأشكرك كثيراً على كرمك بأهدائي علب السردين الستة اللذيذة!
انتهت….

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق