الخميس، 27 أبريل 2017

قصة قصيرة // طواحين الرياح : للاستاذ صالح هشام المغرب

قصة قصيرة / طواحين الرياح ! 
بقلم الأستاذ / صالح هشام !
يسند أحمد ظهره المتعب إلى قاعدة عمود نور..مصباحه مشنوق ..لا يضيء سوى نفسه، يبحر في طلاسم (مغني اللبيب) يسْترِط ُحروف المعمم : (إنها بقرة لا دلول . تثير الحرث ولا تسقي الزرع ) . 
على رأسه أقف مسمرا أتأبط الفراغ ، أتابع في هلع خفافيش تحوم حول الضوء الخافت ،تتضخم ظلالها على الحائط العتيق فتبدو كدراكولات ، تستبد بي رهبة المكان ، وينهش رَوْع الليل جوارحي ، تدور عيناي في محجريهما ، في رحلة مكوكية بين قرص القمر وهالة المصباح المتدلي .
تمتص فجأة غيمة شاردة ضوء القمر، فتستوي العتمة فوقنا تماما ، أشعربالبلل ساخنا يستقر في قاع حذائي ، أضع يدي فوق كتف أحمد انتزعه من غيبوبة الحروف .. يقفز مذعورا يشتم ، يتوعد ،ويتف ،يغلق الكتاب ، يتأفف ، يشعل سيجارة رخيصة ، ينفت دخانها في دوائر حلزونية تعانق الخواء ، تشكل أشباحا رهيبة ، تتلاشى شيئا فشيئا ، تزول تماما ، يشفعها بنفتة أخرى أقوى. !
، زعيقه ونرفزته يبددان ارتعابي بعض الشيء..واستعيد قليلا من رباطة جأشي.. !
كرة لهب كبيرة تمرق من داخل الأسوار كالسهم ، وتكاد تلامس وجهي، تند عني صرخة.. أحيد عنها ، أنزلق وأسقط أرضا ،أتابعها تستقر في مكان ما في هذا الفضاء المهول المخيف !
ينهضني أحمد ، أسمع مصمصته المستميتة لابتلاع ريقه..وأرى صعود وهبوط غصة هلع مكورة تسد حلقه تكاد تخنقه..يتظاهر بالشجاعة، تخونه ارتعاشة شفتيه و يتهدج صوته : 
- كرة نار.. طائشة من .. من ..منجنيق المعممين ،ربما أحدهم لا.. يحسن التصويب !
يقولون :
- إنه من حين... لآخر تطيش كرة لهب كبيرة.. ليلا وتسقط كالنيزك ، يمكن أن تدمر كل شيء في طريقها حارس ..البوابة الجنوبية لمدينة شالة الأثرية، رآها و أيضا سواح ليليون...أروبيون.. !
أقول وأنا ألوك حروفي التي تركل في سقف حنكي :
- إن هذه نسخة من خرافة الصحون الطائرة جاءتنا من صحراء (نيفادا) لتستقر على أسوار مدينة شالة الأثرية ، المخيفة !
مرت كرة لهب أخرى بمحاذاتنا وهي تصفر، يصرخ علي أن أسكت وأكف عن سفسطتي وإلا ستمطر علينا لعنات أكثر مما حاق بنا في هذه الليلة المشؤومة !
فالمنجنيق في الجهة الشمالية لشالة لازال شامخا هناك ولا أحد يجرؤ على الاقتراب منه وعلماء الآثاربجلال قدرهم يخشون لعنته !
اجتاحتني برودة من الرأس الى أخمص قدميّ ! تماسكت نفسي ، تنفست بعمق لأعيد الدفء إلى دمي المتجمد، ومن ثقب أهمله المرممون في جدار سور شالة السميك ، استرق النظر إلى عمق متاهات المدينة التاريخية المعتمة : 
تتبدى لي فجأة حشود من العمائم البيض في صف عسكري رهيب ، تقابلها فيالق ضخمة من الخوذ السوداء أظنها حديدية ،ويطرق مسامعي خَببُ آلاف الحوافر تجوب المكان ذهابا وإيابا وأصوات ، أشبه بالتكبير واضحة تماما ، طقطقة حوافر تشتد وصليل سيوف تتقارع وصهيل خيل وحمحمة ، لكن لا خيول ولا حمير ولا بغال، 
ثم يومض نور باهت يخترق السور الضخم، يتلاشى كل شيء وتبتعله طيات العدم.. يرتد إلي طرفي ، أعيده وأحملق فلا أقابل إلا خواء في خواء.! 
أنهر نفسي : 
- ما دهاك ؟! إنك تهذي : تمكن منك الخوف . واستوطنتك وحشة شالة . ! 
-هاي أحمد ! إنه صليل السيوف ، وصهيل الخيل ، و صفير كرات اللهب تلفظها المجانيق ! ما هذه الفوضى المجنونة !
..هس ...هس .. إنه صهيل الجنون ، إنه عويل أشباح التاريخ ! 
لليل أسرار تحيا فيها الحياة الميتة ، وتموت فيها الحياة الحية..تشق صرخة صمت الليل..يلعلع عويل...وتحشرج أنفاس ! 
يدق قلبي في صدري بقوة، يركل في جنباتي ، أفقد ما استجمعته من شجاعة وتخور قوتي أحاول لملمة جسدي المتخشب ، أستعين بذاتي على حمل ذاتي ، تخونني قدماي تغوصان في الأرض ،أقتلع اليمنى ،فتنغمس اليسرى ، أراوح مكاني ! 
مسندا ظهري بيدي اليمنى ومطوقا عنق أحمد باليسرى ،أستمد منه شجاعة يفتقدها أيضا فهو ليس أحسن حالا مني !
نلتف على بعضنا البعض ، نرقص رقصة الهلع والخوف ، نتدحرج من أعلى التلة فتخلتط أطرافنا وتدق عظامنا، يتبعنا الصهيل والصليل ، والطقطقة ،وتحفنا الأشباح وتطوقنا ..نعدو هاربين متسللين من الممرات الضيقة في حقول القصب ،في اتجاه (عين جنة ) يسحبني أحمد ،من يدي ويصرخ في وجهي :
- اقتلع نفسك ،واخلع عنك بزة الخوف فكرة اللهب التي أخطأتك قد تعود إليك ( فليس كل مرة تسلم الجرة ) !
خرير ماء عين جنة سرب جمال مذعورة ، يعبرني عبر ثقب الأذن ، و يتسرب كالرصاصة من الجهة الأخرى ، يصيبني دوار شديد ، أشعر برغبة ملحة في الغثيان ، أصبح غريبا عن جسدي ، أتهاوى على الأرض ،يسحلني أحمد سحلا أستعيد وعيي ،أرمي بكل ثقلي على كتفه الواهن ، أ هوخرير الماء توقف ؟ أم هي حواسنا شلت تماما ؟ على مقربة من( عين جنة )، يلوح فارس ، تغمره العتمة ، أفرك عيني ، ثم أفرك ، نعم تبينته ،يمتطي حصانا أعجف نحيلا ، يسند جسده على كتف الفراغ اللامتناهي ، بيده رمح قديم مقبضه في الأرض ونصله يدغدغ النجوم في السماء ،مزروع أمامنا كتمثال قديم ،أكتم أنفاسي بقبضتي ، أحمل صمتي ، أدحرجه امامي ، اتحسس قلبي ،أحسبه يركل خارج صدري ؛ نصيح مرعوبين أنا وأحمد :
-السلام عليكم ، يا أهل المكان ! يا سيد الزمان !
لا جواب ، نظراته صارمة تمسح فوقنا ، تخترق المدى البعيد ، لا حركة ، لا صوت ، في خفر الرهبة نتجاوزه ، أفقد كوابح نفسي ، فيغمرني البلل كلي ، استدارة حرباء : لا شيء وراءنا .. فراغ قاتل .. خواء أسود قاتم :
-أين ذهب ؟ أ تلقفته شياطين السماء ؟ ربما امتصته الأرض !
زفير ، ونحنحة ، وصوت كقعقعة الرعد ، يضرب بالأكف على صفحة الماء الراكد ، يكاد يثقب طبلة أذني :
- أنا قاهر طواحين الرياح ! أنا القادم من زمن العواصف و الرياح ، أنا بروموثيوس أنا قاتل زيوس ، أنا الكبد المتجدد ، أنا الثورة ، أنا التغيير ... أنا... أنا ...أنا ، يتلاشى الصوت شيئا فشيئا ، يغشانا صمت الصمت تتلقفنا أكف خشنة غليظة، تطبطب علينا بشتائم وسباب وبعض من الصفعات على القفا والركلات على المؤخرة ، فنروح في نوبة هذيان هستيرية ، تلفنا برودة الجدار والظلام وتزكم أنفينا روائح الفساد والعفونة !!!!
توضيحات :--------------------------------------
-شالة : مدينة أثرية تاريخية ،بمدينة الرباط 
-عين جنة :نبع مائي دافق قرب مدينة شالة 
-برومثيوس وزيوس : علمان أسطوريان ..
بقلم الأستاذ : صالح هشام !
الاربعاء 27 ابريل 2016 
الرباط !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق