الامة التي لا تعرف تاريخها لا تحسن صياغة مستقبلها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ د.صالح العطوان الحيالي -العراق -15-11-2018
تأتي أهمية دراسة التاريخ من كون أنه نابع من تصوراتنا المستقبلية، التي لا يمكن أن نبني أو نضع الأسس الصحيحة والمتينة لأجيالنا ومؤسساتنا نحو مستقبل مزدهر وواعد، دون النظر إلى القوانين التاريخية التي حكمت ورسمت عوالم بناء حضارة وتقدم ورقي أي أمة دون الإغفال عن أسباب التقهقر والضعف الذي يدب في أوصال الدولة التي تكون عادة في قمة عنفوانها وقوتها والذي ينتهي بأفول زمنها وأيامها، وتبقى سيرة تقلبها صفحات التاريخ والتي تبقى بدورها مادة خام وغنية بل وممتعة للباحث الذي يبحث عبر دروب التاريخ لاستخراج العبر والقوانين وإسقاطاتها على الواقع المعاش، والتي عادة تكون مشابهة للماضي، قال تعالى في كتابه العزيز (وتلك الأيام نداولها بين الناس…).
لذلك فإن الأمة التي لا تهتم بتاريخها وماضيها ورموزها… فإنها بالتأكيد ستتخبط في مواجهة التحديات والمعوقات الحضارية الحديثة، التي تتطلب إمكانيات فكرية وعلمية مع الاعتزاز بتراثنا الديني واللغوي والثقافي.. أما إذا دخلنا في الركب الحضاري المعولم دون الالتفات إلى جذورنا وهويتنا فإننا نبقى مثل ذنب الكلب الذي يراوح مكانه في جميع الاتجاهات دون هدف محدد أو واضح.
وهذا هو حال أمتنا الإسلامية والعربية التي ليس لها أي نفوذ أو تاثير على الخارطة السياسية والاقتصادية على الساحة العالمية علما أننا عندنا من الطاقات والإمكانيات التي يجب أن نستثمرها لصالح نهضتنا وتقدمنا، ولن يتأتى هذا بدون النظر إلى تاريخ أمتنا من عهد النبوة إلى عصرنا الحاضر بإيجابياته وسلبياته وتعليمه للأجيال الصاعدة والناشئة، لكي تكون لنا خلفية حضارية قوية تمكننا من خوض غمار التقدم والرقي والعزة، التي كانت لنا منذ زمن قريب وليس ببعيد، والقرآن الكريم يحثنا في عدة آيات على النظر في سيرة الأمم والدول التي كانت سائدة ثم خسفت ونسيت وبقيت ذكرى تتداولها مخطوطات وكتب التاريخ..
وكما هو معلوم فإن ثلث القرآن هو عبارة عن قصص.. وهذا إن دل على شيء إنما يدل على أهمية دراسة التاريخ والاتعاظ به، لكي يكون لنا نبراسا نضيء به دروب المستقبل لكي لا نقع في أخطاء الماضي ومن هنا تأتي علاقة الحاضر بالماضي.
أما بخصوص الدعوات التي يطلقها بعض الأشخاص بعدم جدوى دراسة وفهم تاريخنا، فإنها دعوات غير مقبولة وغير معقولة البتة، لأنها تنم عن عدم تقدير وقصور في الرؤية الماضوية والمستقبلية. فإذا كان الله عز وجل قد أشار في كتابه العزيز إلى ضرورة استنباط الدروس والعبر التاريخية من قصص الأنبياء مع أممهم، فإن هؤلاء الذين يطلقون هذه الأفكار التي تدعو إلى نسيان الماضي وعدم ربطه بالحاضر، هم مجرد غوغائيين لا فائدة منهم وفاقد الشيء لا يعطيه...
هي مقولة عظيمة تلخص حال الأمم للكاتب والفيلسوف الامريكي جورج سانتايانا : “أولئك الذين لا يتذكرون ماضيهم مكتوب عليهم أن يعيدوه”, فهناك من يتذكرون تاريخهم وهناك من ينسوه ويتناسوه ويتركوه لقمة سائغة لأعدائهم يطمسوه ويقومون بتشويهه كيفما ارادوا وأينما توافق مع ما خططوا له. و عن تدبر سنن الحياة ومجري التاريخ يقول دكتور مصطفي محمود في كتابه – من أمريكا الي الشاطيء الأخر : “من يقرأ التاريخ لا يدخل اليأس إلى قلبه أبداً, و سوف يرى الدنيا أياماً يداولها الله بين الناس. الأغنياء يصبحون فقراء, والفقراء ينقلبون أغنياء, وضعفاء الأمس أقوياء اليوم, وحكام الأمس مشردو اليوم, والقضاة متهمون, والغالبون مغلوبون والفلك دوار والحياة لا تقف, والناس يتبادلون الكراسي”
من المشهور بين الناس أننا نقرأ التاريخ من أجل الاستفادة من عبره ودروسه، وحتى نتمكن من مقارنة أحوالنا بأحوال من سبقنا؛ فنزداد بصيرة وخبرة بما يجب أن نفعله، وبما يجب أن نتركه، وهذا المشهور لا شكّ في صحته، وإن كان من يستفيد من عبر التاريخ دائمًا قلة؛ لكن هناك لفهم التاريخ ووعي معطياته فوائد أخرى مهمة، في مسائل التربية والإبداع، والتجديد، واستشراف المستقبل، والتعمق في فهم العلوم.
الأمم العظيمة تستخدم التاريخ أداةً للتوجيه وأداةً للتربية؛ إذ تتخذ من إنجازات الآباء والأجداد، ومن سير العظماء -محفِّزات على السموِّ والعطاء والاستقامة، وهذا - إذا سلم من المبالغة والتهويل والقراءة المنحازة- يُعدُّ شيئًا مفيدًا وجيدًا. المربون والمعلمون والدعاة يختلفون اختلافًا واسعًا في توظيف ما يُعد مصلحة معرفية وأخلاقية، فمنهم من يستخدم تلك الحصيلة للبرهنة على فضل السلف وانحطاط الخلف! ومنهم من يستخدمها من أجل تعليم الناشئة الإذعان للمجتمع والتكيف مع الظروف الحاضرة، وقليلون أولئك الذين يوظفون المستخلَصات التاريخية في إيقاظ الوعي، وتدعيم الحس النقدي، والحفز على الوصول إلى شيء جديد، وسبب ضآلة هذا النوع من التربية والتعليم يعود إلى أننا حين نقرأ التاريخ لا نتوقع منه أن يساعدنا في فهم واقعنا وتطوير هذا الواقع.
إن الكثير من شبابنا منغمسون في تلبية الرغبات الآنية، أو غارقون في هموم تأمين الحاجات الضرورية، والبعض الآخر منهم حائر في أمره ومستقبله! ومن مهام التاريخ حين يُدرّس بطريقة صحيحة أن يساعد الناشئة على الانفصال عن الواقع، وأن ينقذهم من الضياع في معطياته.
إن التاريخ يدرس الآن على أنه سلسلة أحداث التاريخ عبر سرد متماسك، يربط المعاصرين بأسلافهم، ويسلط الضوء على سلسلة التطورات الإيجابية والسلبية التي صنعت الفرق بين مرحلة ومرحلة، وبين جيل وجيل، وهذا يتطلب أن ندرس مع التاريخ فلسفته وفقهه، وأن نثير الأسئلة حول أسباب وقائعه وأحداثه، ونبحث عن العلل والمقدمات والجذور، ونكتشف سنن الله - جل وعلا - في الاجتماع البشري، ونجلو طبيعة النفس البشرية في إقبالها وإدبارها، إن التاريخ حين يُدرس بهذه الطريقة، يحسّن مستوى البصيرة لدى المتعلمين، ويمكنهم من امتلاك الأدوات التي ينقدون بها الواقع الذي يعيشون فيه عوضًا عن أن ينجرفوا مع تياراته العاتية من غير أي قدرة على التأبّي والممانعة.
إن نقد الواقع يساعدنا على بلورة ملامح الهوية التي تميّزنا عن غيرنا، كما أنه يفتح السبيل أمام تطوير هذا الواقع وإخراجه من سياق التداعيات والتحوّلات العمياء التي تصنعها العولمة بإمكاناتها الهائلة.
إن الهم الذي يسيطر على المدارس والجامعات اليوم هو إعداد خرّيجيها لسوق العمل؛ أي مساعدتهم على أن يكرّسوا عقولهم وطاقاتهم، وأن يكيّفوا اتجاهاتهم وميولهم مع ما يساعدهم على كسب لقمة العيش، أو بعبارة أخرى: تعدُّهم لأن يكونوا مسمارًا صالحًا في الآلة الكبرى التي يديرها رجال المال والأعمال، وهذا الاتجاه في التعليم مطلوب وإيجابي، لكن ينبغي أن نكون على وعي بالتأثيرات الجانبية السيئة لهذا التوجيه في التعليم وفي إعداد الناشئة للحياة.
إننا حين نعدّ الأجيال للتكيف مع سوق العمل، عن طريق تلقينهم معلومات تجعل منهم أشخاصًا تقنيين تنفيذيين كما يجري الآن - فإننا نجعل منهم أشخاصًا عاجزين عن المساهمة في إيقاف التدهور الذي تتعرض له مجتمعاتهم.
إن التطور الاجتماعي يتم بطريقة غير واعية، ومن مهام المثقفين -على اختلاف درجاتهم- أن يساعدوا الأمة على تجاوز الأزمات الكبرى التي تتعرض لها من خلال تراكم الأخطاء والخطايا الصغيرة والكبيرة للأجيال المتعاقبة، ولا يستطيع المثقفون والمتعلمون عامة القيام بهذا الدور إلا إذا تلقّوا العلم على أنه تحرير وعتق من الاستكانة للقوى الغاشمة، ومن التقليد الأعمى للآباء والأجداد، وإلا إذا تلقّوه على أنه وسيلة للتكيف مع الواقع، ووسيلة لترشيده وتحسينه أيضًا، ومما يساعد في بلوغ هذا العمل على إضفاء الطابع الأخلاقي والإنساني على المعرفة والتقنية، فالعلم للعمل ولخدمة الناس ونصحهم وتصحيح أوضاعهم. يجب أن نعلم الناشئة الدور التاريخي الذي قام به العلم في بناء الأمة وتشييد الحضارة الإسلامية، إضافةً إلى توضيح دور العلم في تكوين الرجال العظام على امتداد التاريخ الإسلامي، يجب أن يطلع الناشئة على تاريخ الحركات الإصلاحية الكبرى، وعلى العوامل والأسباب التي تساعد على نشوء الأفكار العظيمة ذات الطبيعة الاختراقية إذا ما كنا نريد للتاريخ وللعلم أن يساهما في تجديد الأمة ودفعها نحو الأمام.
في بنائنا المعرفي ثغرات واضحة، لا تخطئها عين الناقد، وتلك الثغرات كثيرة، ولعل من أهمها: إهمال تاريخ العلوم، وإهمال اكتشاف مقاصد التشريع، إضافةً إلى التقصير الظاهر في التعرف على سنن الله تعالى في الخلق، والتقصير في معرفة طبائع الأشياء، ولا سيما الطبيعة البشرية.
إن العلوم الإنسانية والعلوم البحتة كذلك تُقدَّم للناشئة مبتورةً من بُعْدِها التاريخي؛ فتبدو وكأنها تكونت منذ البداية على الصورة التي عليها الآن؛ حيث لا يعرف الدارسون تاريخ نشوئها ولا الأطوار التي مرت بها، كما لا يعرفون شيئًا ذا قيمة عن العلماء الكبار الذين تركوا بصماتهم عليها، ولهذا فإنك لا تشعر أن ما نقدمه في المدارس والجامعات يبني عقولاً منهجية، أو يبني شخصيات تتمتع بالاستقلال الفكري والمعرفي، وما ذلك إلا بسبب شعورهم بضآلة ما يتلقونه وغموضه.
إننا في الحقيقة لا نستطيع أن نفهم أي علم على نحو عميق، إلا إذا فهمنا تاريخه وخارطة تكوينه وتحوّلاته، ومن المؤسف أننا لا نبذل جهدًا يذكر في شرح كيفية تحدُّر الجديد من القديم، وليس لدينا أي جامعة أو كلية أو معهد يقدم شيئًا متميزًا في تاريخ أي علم من العلوم!
إن التجديد المعرفي والاجتماعي سيكون صعبًا من غير الاطلاع على الأطوار السابقة لعلومنا وأوضاعنا، إننا من خلال قراءة تاريخ العلوم نتعرف على بواعث الاجتهاد وبيئاته والعقبات التي تواجهه، كما أننا ننمي لدينا حاسة المقارنة، ونكتسب المزيد من المرونة الذهنية، والمزيد من القدرة على رؤية الأشياء من زوايا مختلفة، وقد صدق من قال:"إذا أردت أن تعرف المستقبل فانظر إلى الماضي"؛ إذ تمكّننا معرفة الماضي من اكتشاف السنن التي تجسد العلاقة بين ما فات وبين ما هو آت، ومن خلال هذا وذاك نكتشف آفاقًا جديدة للتطوير، ونفتح حقولاً جديدة للممارسة، وقد آن الأوان للعمل على استدراك بعض ما فات، والعمل على توظيف التاريخ في تغيير نوعية الحياة لمئات الملايين من المسلمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ د.صالح العطوان الحيالي -العراق -15-11-2018
تأتي أهمية دراسة التاريخ من كون أنه نابع من تصوراتنا المستقبلية، التي لا يمكن أن نبني أو نضع الأسس الصحيحة والمتينة لأجيالنا ومؤسساتنا نحو مستقبل مزدهر وواعد، دون النظر إلى القوانين التاريخية التي حكمت ورسمت عوالم بناء حضارة وتقدم ورقي أي أمة دون الإغفال عن أسباب التقهقر والضعف الذي يدب في أوصال الدولة التي تكون عادة في قمة عنفوانها وقوتها والذي ينتهي بأفول زمنها وأيامها، وتبقى سيرة تقلبها صفحات التاريخ والتي تبقى بدورها مادة خام وغنية بل وممتعة للباحث الذي يبحث عبر دروب التاريخ لاستخراج العبر والقوانين وإسقاطاتها على الواقع المعاش، والتي عادة تكون مشابهة للماضي، قال تعالى في كتابه العزيز (وتلك الأيام نداولها بين الناس…).
لذلك فإن الأمة التي لا تهتم بتاريخها وماضيها ورموزها… فإنها بالتأكيد ستتخبط في مواجهة التحديات والمعوقات الحضارية الحديثة، التي تتطلب إمكانيات فكرية وعلمية مع الاعتزاز بتراثنا الديني واللغوي والثقافي.. أما إذا دخلنا في الركب الحضاري المعولم دون الالتفات إلى جذورنا وهويتنا فإننا نبقى مثل ذنب الكلب الذي يراوح مكانه في جميع الاتجاهات دون هدف محدد أو واضح.
وهذا هو حال أمتنا الإسلامية والعربية التي ليس لها أي نفوذ أو تاثير على الخارطة السياسية والاقتصادية على الساحة العالمية علما أننا عندنا من الطاقات والإمكانيات التي يجب أن نستثمرها لصالح نهضتنا وتقدمنا، ولن يتأتى هذا بدون النظر إلى تاريخ أمتنا من عهد النبوة إلى عصرنا الحاضر بإيجابياته وسلبياته وتعليمه للأجيال الصاعدة والناشئة، لكي تكون لنا خلفية حضارية قوية تمكننا من خوض غمار التقدم والرقي والعزة، التي كانت لنا منذ زمن قريب وليس ببعيد، والقرآن الكريم يحثنا في عدة آيات على النظر في سيرة الأمم والدول التي كانت سائدة ثم خسفت ونسيت وبقيت ذكرى تتداولها مخطوطات وكتب التاريخ..
وكما هو معلوم فإن ثلث القرآن هو عبارة عن قصص.. وهذا إن دل على شيء إنما يدل على أهمية دراسة التاريخ والاتعاظ به، لكي يكون لنا نبراسا نضيء به دروب المستقبل لكي لا نقع في أخطاء الماضي ومن هنا تأتي علاقة الحاضر بالماضي.
أما بخصوص الدعوات التي يطلقها بعض الأشخاص بعدم جدوى دراسة وفهم تاريخنا، فإنها دعوات غير مقبولة وغير معقولة البتة، لأنها تنم عن عدم تقدير وقصور في الرؤية الماضوية والمستقبلية. فإذا كان الله عز وجل قد أشار في كتابه العزيز إلى ضرورة استنباط الدروس والعبر التاريخية من قصص الأنبياء مع أممهم، فإن هؤلاء الذين يطلقون هذه الأفكار التي تدعو إلى نسيان الماضي وعدم ربطه بالحاضر، هم مجرد غوغائيين لا فائدة منهم وفاقد الشيء لا يعطيه...
هي مقولة عظيمة تلخص حال الأمم للكاتب والفيلسوف الامريكي جورج سانتايانا : “أولئك الذين لا يتذكرون ماضيهم مكتوب عليهم أن يعيدوه”, فهناك من يتذكرون تاريخهم وهناك من ينسوه ويتناسوه ويتركوه لقمة سائغة لأعدائهم يطمسوه ويقومون بتشويهه كيفما ارادوا وأينما توافق مع ما خططوا له. و عن تدبر سنن الحياة ومجري التاريخ يقول دكتور مصطفي محمود في كتابه – من أمريكا الي الشاطيء الأخر : “من يقرأ التاريخ لا يدخل اليأس إلى قلبه أبداً, و سوف يرى الدنيا أياماً يداولها الله بين الناس. الأغنياء يصبحون فقراء, والفقراء ينقلبون أغنياء, وضعفاء الأمس أقوياء اليوم, وحكام الأمس مشردو اليوم, والقضاة متهمون, والغالبون مغلوبون والفلك دوار والحياة لا تقف, والناس يتبادلون الكراسي”
من المشهور بين الناس أننا نقرأ التاريخ من أجل الاستفادة من عبره ودروسه، وحتى نتمكن من مقارنة أحوالنا بأحوال من سبقنا؛ فنزداد بصيرة وخبرة بما يجب أن نفعله، وبما يجب أن نتركه، وهذا المشهور لا شكّ في صحته، وإن كان من يستفيد من عبر التاريخ دائمًا قلة؛ لكن هناك لفهم التاريخ ووعي معطياته فوائد أخرى مهمة، في مسائل التربية والإبداع، والتجديد، واستشراف المستقبل، والتعمق في فهم العلوم.
الأمم العظيمة تستخدم التاريخ أداةً للتوجيه وأداةً للتربية؛ إذ تتخذ من إنجازات الآباء والأجداد، ومن سير العظماء -محفِّزات على السموِّ والعطاء والاستقامة، وهذا - إذا سلم من المبالغة والتهويل والقراءة المنحازة- يُعدُّ شيئًا مفيدًا وجيدًا. المربون والمعلمون والدعاة يختلفون اختلافًا واسعًا في توظيف ما يُعد مصلحة معرفية وأخلاقية، فمنهم من يستخدم تلك الحصيلة للبرهنة على فضل السلف وانحطاط الخلف! ومنهم من يستخدمها من أجل تعليم الناشئة الإذعان للمجتمع والتكيف مع الظروف الحاضرة، وقليلون أولئك الذين يوظفون المستخلَصات التاريخية في إيقاظ الوعي، وتدعيم الحس النقدي، والحفز على الوصول إلى شيء جديد، وسبب ضآلة هذا النوع من التربية والتعليم يعود إلى أننا حين نقرأ التاريخ لا نتوقع منه أن يساعدنا في فهم واقعنا وتطوير هذا الواقع.
إن الكثير من شبابنا منغمسون في تلبية الرغبات الآنية، أو غارقون في هموم تأمين الحاجات الضرورية، والبعض الآخر منهم حائر في أمره ومستقبله! ومن مهام التاريخ حين يُدرّس بطريقة صحيحة أن يساعد الناشئة على الانفصال عن الواقع، وأن ينقذهم من الضياع في معطياته.
إن التاريخ يدرس الآن على أنه سلسلة أحداث التاريخ عبر سرد متماسك، يربط المعاصرين بأسلافهم، ويسلط الضوء على سلسلة التطورات الإيجابية والسلبية التي صنعت الفرق بين مرحلة ومرحلة، وبين جيل وجيل، وهذا يتطلب أن ندرس مع التاريخ فلسفته وفقهه، وأن نثير الأسئلة حول أسباب وقائعه وأحداثه، ونبحث عن العلل والمقدمات والجذور، ونكتشف سنن الله - جل وعلا - في الاجتماع البشري، ونجلو طبيعة النفس البشرية في إقبالها وإدبارها، إن التاريخ حين يُدرس بهذه الطريقة، يحسّن مستوى البصيرة لدى المتعلمين، ويمكنهم من امتلاك الأدوات التي ينقدون بها الواقع الذي يعيشون فيه عوضًا عن أن ينجرفوا مع تياراته العاتية من غير أي قدرة على التأبّي والممانعة.
إن نقد الواقع يساعدنا على بلورة ملامح الهوية التي تميّزنا عن غيرنا، كما أنه يفتح السبيل أمام تطوير هذا الواقع وإخراجه من سياق التداعيات والتحوّلات العمياء التي تصنعها العولمة بإمكاناتها الهائلة.
إن الهم الذي يسيطر على المدارس والجامعات اليوم هو إعداد خرّيجيها لسوق العمل؛ أي مساعدتهم على أن يكرّسوا عقولهم وطاقاتهم، وأن يكيّفوا اتجاهاتهم وميولهم مع ما يساعدهم على كسب لقمة العيش، أو بعبارة أخرى: تعدُّهم لأن يكونوا مسمارًا صالحًا في الآلة الكبرى التي يديرها رجال المال والأعمال، وهذا الاتجاه في التعليم مطلوب وإيجابي، لكن ينبغي أن نكون على وعي بالتأثيرات الجانبية السيئة لهذا التوجيه في التعليم وفي إعداد الناشئة للحياة.
إننا حين نعدّ الأجيال للتكيف مع سوق العمل، عن طريق تلقينهم معلومات تجعل منهم أشخاصًا تقنيين تنفيذيين كما يجري الآن - فإننا نجعل منهم أشخاصًا عاجزين عن المساهمة في إيقاف التدهور الذي تتعرض له مجتمعاتهم.
إن التطور الاجتماعي يتم بطريقة غير واعية، ومن مهام المثقفين -على اختلاف درجاتهم- أن يساعدوا الأمة على تجاوز الأزمات الكبرى التي تتعرض لها من خلال تراكم الأخطاء والخطايا الصغيرة والكبيرة للأجيال المتعاقبة، ولا يستطيع المثقفون والمتعلمون عامة القيام بهذا الدور إلا إذا تلقّوا العلم على أنه تحرير وعتق من الاستكانة للقوى الغاشمة، ومن التقليد الأعمى للآباء والأجداد، وإلا إذا تلقّوه على أنه وسيلة للتكيف مع الواقع، ووسيلة لترشيده وتحسينه أيضًا، ومما يساعد في بلوغ هذا العمل على إضفاء الطابع الأخلاقي والإنساني على المعرفة والتقنية، فالعلم للعمل ولخدمة الناس ونصحهم وتصحيح أوضاعهم. يجب أن نعلم الناشئة الدور التاريخي الذي قام به العلم في بناء الأمة وتشييد الحضارة الإسلامية، إضافةً إلى توضيح دور العلم في تكوين الرجال العظام على امتداد التاريخ الإسلامي، يجب أن يطلع الناشئة على تاريخ الحركات الإصلاحية الكبرى، وعلى العوامل والأسباب التي تساعد على نشوء الأفكار العظيمة ذات الطبيعة الاختراقية إذا ما كنا نريد للتاريخ وللعلم أن يساهما في تجديد الأمة ودفعها نحو الأمام.
في بنائنا المعرفي ثغرات واضحة، لا تخطئها عين الناقد، وتلك الثغرات كثيرة، ولعل من أهمها: إهمال تاريخ العلوم، وإهمال اكتشاف مقاصد التشريع، إضافةً إلى التقصير الظاهر في التعرف على سنن الله تعالى في الخلق، والتقصير في معرفة طبائع الأشياء، ولا سيما الطبيعة البشرية.
إن العلوم الإنسانية والعلوم البحتة كذلك تُقدَّم للناشئة مبتورةً من بُعْدِها التاريخي؛ فتبدو وكأنها تكونت منذ البداية على الصورة التي عليها الآن؛ حيث لا يعرف الدارسون تاريخ نشوئها ولا الأطوار التي مرت بها، كما لا يعرفون شيئًا ذا قيمة عن العلماء الكبار الذين تركوا بصماتهم عليها، ولهذا فإنك لا تشعر أن ما نقدمه في المدارس والجامعات يبني عقولاً منهجية، أو يبني شخصيات تتمتع بالاستقلال الفكري والمعرفي، وما ذلك إلا بسبب شعورهم بضآلة ما يتلقونه وغموضه.
إننا في الحقيقة لا نستطيع أن نفهم أي علم على نحو عميق، إلا إذا فهمنا تاريخه وخارطة تكوينه وتحوّلاته، ومن المؤسف أننا لا نبذل جهدًا يذكر في شرح كيفية تحدُّر الجديد من القديم، وليس لدينا أي جامعة أو كلية أو معهد يقدم شيئًا متميزًا في تاريخ أي علم من العلوم!
إن التجديد المعرفي والاجتماعي سيكون صعبًا من غير الاطلاع على الأطوار السابقة لعلومنا وأوضاعنا، إننا من خلال قراءة تاريخ العلوم نتعرف على بواعث الاجتهاد وبيئاته والعقبات التي تواجهه، كما أننا ننمي لدينا حاسة المقارنة، ونكتسب المزيد من المرونة الذهنية، والمزيد من القدرة على رؤية الأشياء من زوايا مختلفة، وقد صدق من قال:"إذا أردت أن تعرف المستقبل فانظر إلى الماضي"؛ إذ تمكّننا معرفة الماضي من اكتشاف السنن التي تجسد العلاقة بين ما فات وبين ما هو آت، ومن خلال هذا وذاك نكتشف آفاقًا جديدة للتطوير، ونفتح حقولاً جديدة للممارسة، وقد آن الأوان للعمل على استدراك بعض ما فات، والعمل على توظيف التاريخ في تغيير نوعية الحياة لمئات الملايين من المسلمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق