و هل يُستهان بالنزوات يا سعد سعود شخاب ؟
وقفة مع قصة (طنين) للقاص سعد سعود شخاب
طنين.. عنوان يبدو لك لأول وهلة أنه فاضح و كلاسيكي، و لكن ما إن تنغمس في قراءة القصة حتى تغير رأيك تماما ، فتجزم أنه لا يقصد صوت الذبابة ، ثم يصارحك قبل النهاية بأنه هو ذاته ما يقصده، وعندما تفرغ من القصة لا تصدقه في تصريحه ، تجزم أن صدره ينطوي على شيء آخر، ليس استهانة بالذبابة ولا بصوتها ، و لا إكبارا للسارد من أن ينشغل بمثل هكذا مواقف ، و لكن استشفافا لمرايا حروفه التي تحس أن أشياء خفية تتحرك خلفها،شيء ما يحضّر نفسه للبروز ، بينما السارد يمنعه ، و يدعوه إلى التريث قليلا .
أول ما استرعاني هو استهلاله بالنفي (لم يكن يلتفت إليها) ، مع عدم إهماله للجمل المنفية في الوسط و النهاية ،و هذا النفي هو منتهى الإثبات ، و هو مرتبط في حالاته كلها بالبطل ، مما يؤكد الفرضية الضمنية التي وضعناها منذ البداية ، و منها ( لم يكن يلتفت إليها) ، (لم يعد يستطيع مواجهتها) ،و (لم أفرغ لك )، و هذه في رأيي مفاتيح النفي في النص ، حيث كانت الذبابة غائبة في بداية القصة تعدى إليها بحرف جر(إليها)، ثم بقيت غائبة في وسط الجملة ، و لكنه تعدى إليها بمصدر(مواجهتها) ، ثم أخيرا اقتربت لحظة التكشف ، ،إنه يواجهها ، و يخاطبها بلا حجاب و لا تورية ،(لم أفرغ لك) يخاطبها بنوع من الاستعلاء ، التحقير، و التهديد .
ما يلفت النظر أيضا في هذا السبك هو القدرة العجيبة على جعل الموضوع حيويا ، فعلى الرغم من أن الحادثة بسيطة إلا أنك أمام حركية فاعلة ، حركية لا تعتمد على الأنشطة الواقعية الأرضية و الحسية، و لكن على غليان أفكار و خواطر في ذهن البطل ، تتفاعل ،تتماوج ، و تتكتل متكورة مع الحوار الباطني كما كرة الثلج التي تنذر بكارثة وشيكة ، هذه الكارثة هي الخروج من التفاعل الذاتي إلى التحدث بصوت عال مع الذبابة ، أو مع هذا الشيء الذي يماثل الذبابة في صغره و في إزعاجه في نفس الوقت .
وبعض مكونات هذه الحركية الخلاقة هو هذا الحشد الهائل للأفعال ، و الجمل الفعلية المعطوفة التي تتوالى تترا كأنها تخرج من رشاش أفكار، ثم اختياره للأفعال المضارعة و لا يخفى ما في هذا من تحفيز ذهن القارئ و تحيينه مع اللحظة الراهنة حيث مركز الانتباه .
الطنين هو نزوة خفية هينة ، لكنها استطاعت أن تزعجه، كما تفعل ذلك الذبابة ، و هي تصل به إلى (و يرمي من يده هذا الكتاب ) ،المراد أن هذه الخفقة الغريبة و المتطفلة تشوش عليه التركيز في طلب العلم ، و يعزز هذه الفرضية تعريفه لكلمة (الكتاب) و تدعيمه له باسم إشارة .الذبابة الحقيقية تموت في فصل الشتاء أو تدخل في سبات شتوي، و لكن تلك التي يقصدها الكاتب لا يؤثر فيها الجو ، بالعكس ، فهي تزداد شراسة في أوقات البرد ، حيث تتهور لتلتصق به .
و على الرغم من أن الرمز طافح في هذه القصة ، و كذلك القدرة اللغوية ، إلا أن ما شدني إليها أكثر هو هذا التلطف بيد القارئ بفضل جمل مكثفة المعاني ، و لكنها ميسرة عن طريق صور خاطفة تعبد له الطريق ، بلغة صارمة متعرقة بمسك شطحة صوفية ، تجعل من الأفكار دائرية الانسياب ..الشكل البنائي للقصة منسوج على رقصات توتر البطل، لا خروج عن الموضوع ، أنفاس الحرف على قدر مقاس تنهدات المعاني ، لا مجال للتعبيرات الفضفاضة التي تصلح لحالات مختلفة و أحيانا متناقضة .
و للكاتب بعض الخرجات اللطيفة التي لا ينتبه لها إلا من يدقق فيها ، و ربما لم ينتبه لها حتى عقله الظاهري ، في حين أنه قصدها بعينها ، مثل (لكن الأحداث تجري في الحياة كثيرا بما لا نشتهي نحن) لينفي كلمة السفن لتكون العبارة له، و لتلامس المأساة الذات الإنسانية لا الخشب الذي يمثل الحياة الجسدية ، كما أن كلمة كثيرا زادت المعنى تثبيتا و أضفت على الموقف فاجعة أشد .
العبارات المستقاة من القاموس القرآني كثيرة،نذكر منها :تسلب منه شيئا (و إن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه) ، و عبارة (لم أفرغ لك) في قوله تعالى (سنفرغ لكم أيها الثقلان) و (ضعف الطالب و المطلوب) و قد أوردها كاملة كما هي ..
دعك من قصة الجاحظ ، فالجاحظ لم يحتكر الذباب ، كما لم يحتكر الموقف بمجمله ، لأنه متكرر ،ناهيك من أن صورته كاريكاتورية ،في حين جاءت صورة الكاتب سعد سعود شخاب صوفية وجودية .
بدا السارد مجرد ناقل لحادثة بسيطة ، و لكن ما إن توشك القصة على الانتهاء ، و في لحظة ذهول ، ينطق السارد منتحلا شخصية البطل المعني بهذا الانزعاج ، يتحدث بضمير المتكلم دون فتح لأدوات الحوار ، ربما يكشف علاقة خفية بالحادثة ، أو يثبت تعاطفا و تبنيا مبطنا لموقف البطل .
لا يملك بطل القصة الوقت الكافي لمواجهة هذه الذبابة ، لأن حركتها سرمدية ، و طريقه طويلة ، فهو يعرف أنها قد تفرغت له ،لكنه لم يتفرغ لها ، همت به مرارا ، و لم يهم بها ، هو يتوعدها بمجرد كلمات ، و هي تحقق إنجازات واقعية ، منها تكدير ساعات صفوه ، و تعطيله عن المسير إلى مقصده ، تحاول الالتصاق به ، لكنه مصر على المضي إلى هدفه ..محبوبه .
بدأ قصته بمقدمة مهادنة، تتكون من سطرين توهمك أنك تستطيع أن تترك المتابعة في أي لحظة ، و لكن الكاتب قد وضع لك في نصه فخاخا ،فخ متانة اللغة ، السرد الساحر ،التصوير الأخاذ المدعم بتشبيهات آسرة ، و الأجواء الصوفية الصافية ،ثم اعتماده على أسلوب الاستفهام في العديد من المواطن لينقل المعركة إلى وجدانك .لقد تعدى دور قاص يرتدي اللباس الرسمي ، و تحول إلى محدث حميم ،ممتع ،و متمرس بخبايا النفس الإنسانية .
وقفة مع قصة (طنين) للقاص سعد سعود شخاب
طنين.. عنوان يبدو لك لأول وهلة أنه فاضح و كلاسيكي، و لكن ما إن تنغمس في قراءة القصة حتى تغير رأيك تماما ، فتجزم أنه لا يقصد صوت الذبابة ، ثم يصارحك قبل النهاية بأنه هو ذاته ما يقصده، وعندما تفرغ من القصة لا تصدقه في تصريحه ، تجزم أن صدره ينطوي على شيء آخر، ليس استهانة بالذبابة ولا بصوتها ، و لا إكبارا للسارد من أن ينشغل بمثل هكذا مواقف ، و لكن استشفافا لمرايا حروفه التي تحس أن أشياء خفية تتحرك خلفها،شيء ما يحضّر نفسه للبروز ، بينما السارد يمنعه ، و يدعوه إلى التريث قليلا .
أول ما استرعاني هو استهلاله بالنفي (لم يكن يلتفت إليها) ، مع عدم إهماله للجمل المنفية في الوسط و النهاية ،و هذا النفي هو منتهى الإثبات ، و هو مرتبط في حالاته كلها بالبطل ، مما يؤكد الفرضية الضمنية التي وضعناها منذ البداية ، و منها ( لم يكن يلتفت إليها) ، (لم يعد يستطيع مواجهتها) ،و (لم أفرغ لك )، و هذه في رأيي مفاتيح النفي في النص ، حيث كانت الذبابة غائبة في بداية القصة تعدى إليها بحرف جر(إليها)، ثم بقيت غائبة في وسط الجملة ، و لكنه تعدى إليها بمصدر(مواجهتها) ، ثم أخيرا اقتربت لحظة التكشف ، ،إنه يواجهها ، و يخاطبها بلا حجاب و لا تورية ،(لم أفرغ لك) يخاطبها بنوع من الاستعلاء ، التحقير، و التهديد .
ما يلفت النظر أيضا في هذا السبك هو القدرة العجيبة على جعل الموضوع حيويا ، فعلى الرغم من أن الحادثة بسيطة إلا أنك أمام حركية فاعلة ، حركية لا تعتمد على الأنشطة الواقعية الأرضية و الحسية، و لكن على غليان أفكار و خواطر في ذهن البطل ، تتفاعل ،تتماوج ، و تتكتل متكورة مع الحوار الباطني كما كرة الثلج التي تنذر بكارثة وشيكة ، هذه الكارثة هي الخروج من التفاعل الذاتي إلى التحدث بصوت عال مع الذبابة ، أو مع هذا الشيء الذي يماثل الذبابة في صغره و في إزعاجه في نفس الوقت .
وبعض مكونات هذه الحركية الخلاقة هو هذا الحشد الهائل للأفعال ، و الجمل الفعلية المعطوفة التي تتوالى تترا كأنها تخرج من رشاش أفكار، ثم اختياره للأفعال المضارعة و لا يخفى ما في هذا من تحفيز ذهن القارئ و تحيينه مع اللحظة الراهنة حيث مركز الانتباه .
الطنين هو نزوة خفية هينة ، لكنها استطاعت أن تزعجه، كما تفعل ذلك الذبابة ، و هي تصل به إلى (و يرمي من يده هذا الكتاب ) ،المراد أن هذه الخفقة الغريبة و المتطفلة تشوش عليه التركيز في طلب العلم ، و يعزز هذه الفرضية تعريفه لكلمة (الكتاب) و تدعيمه له باسم إشارة .الذبابة الحقيقية تموت في فصل الشتاء أو تدخل في سبات شتوي، و لكن تلك التي يقصدها الكاتب لا يؤثر فيها الجو ، بالعكس ، فهي تزداد شراسة في أوقات البرد ، حيث تتهور لتلتصق به .
و على الرغم من أن الرمز طافح في هذه القصة ، و كذلك القدرة اللغوية ، إلا أن ما شدني إليها أكثر هو هذا التلطف بيد القارئ بفضل جمل مكثفة المعاني ، و لكنها ميسرة عن طريق صور خاطفة تعبد له الطريق ، بلغة صارمة متعرقة بمسك شطحة صوفية ، تجعل من الأفكار دائرية الانسياب ..الشكل البنائي للقصة منسوج على رقصات توتر البطل، لا خروج عن الموضوع ، أنفاس الحرف على قدر مقاس تنهدات المعاني ، لا مجال للتعبيرات الفضفاضة التي تصلح لحالات مختلفة و أحيانا متناقضة .
و للكاتب بعض الخرجات اللطيفة التي لا ينتبه لها إلا من يدقق فيها ، و ربما لم ينتبه لها حتى عقله الظاهري ، في حين أنه قصدها بعينها ، مثل (لكن الأحداث تجري في الحياة كثيرا بما لا نشتهي نحن) لينفي كلمة السفن لتكون العبارة له، و لتلامس المأساة الذات الإنسانية لا الخشب الذي يمثل الحياة الجسدية ، كما أن كلمة كثيرا زادت المعنى تثبيتا و أضفت على الموقف فاجعة أشد .
العبارات المستقاة من القاموس القرآني كثيرة،نذكر منها :تسلب منه شيئا (و إن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه) ، و عبارة (لم أفرغ لك) في قوله تعالى (سنفرغ لكم أيها الثقلان) و (ضعف الطالب و المطلوب) و قد أوردها كاملة كما هي ..
دعك من قصة الجاحظ ، فالجاحظ لم يحتكر الذباب ، كما لم يحتكر الموقف بمجمله ، لأنه متكرر ،ناهيك من أن صورته كاريكاتورية ،في حين جاءت صورة الكاتب سعد سعود شخاب صوفية وجودية .
بدا السارد مجرد ناقل لحادثة بسيطة ، و لكن ما إن توشك القصة على الانتهاء ، و في لحظة ذهول ، ينطق السارد منتحلا شخصية البطل المعني بهذا الانزعاج ، يتحدث بضمير المتكلم دون فتح لأدوات الحوار ، ربما يكشف علاقة خفية بالحادثة ، أو يثبت تعاطفا و تبنيا مبطنا لموقف البطل .
لا يملك بطل القصة الوقت الكافي لمواجهة هذه الذبابة ، لأن حركتها سرمدية ، و طريقه طويلة ، فهو يعرف أنها قد تفرغت له ،لكنه لم يتفرغ لها ، همت به مرارا ، و لم يهم بها ، هو يتوعدها بمجرد كلمات ، و هي تحقق إنجازات واقعية ، منها تكدير ساعات صفوه ، و تعطيله عن المسير إلى مقصده ، تحاول الالتصاق به ، لكنه مصر على المضي إلى هدفه ..محبوبه .
بدأ قصته بمقدمة مهادنة، تتكون من سطرين توهمك أنك تستطيع أن تترك المتابعة في أي لحظة ، و لكن الكاتب قد وضع لك في نصه فخاخا ،فخ متانة اللغة ، السرد الساحر ،التصوير الأخاذ المدعم بتشبيهات آسرة ، و الأجواء الصوفية الصافية ،ثم اعتماده على أسلوب الاستفهام في العديد من المواطن لينقل المعركة إلى وجدانك .لقد تعدى دور قاص يرتدي اللباس الرسمي ، و تحول إلى محدث حميم ،ممتع ،و متمرس بخبايا النفس الإنسانية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق